الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن ملوك بني إسرائيل بعد الحكام ثم افترق أمرهم والخبر عن دولة بني سليمان بن داود على السبطين يهوذا وبنيامين بالقدس إلى انقراضها: لما نقم بنو إسرائيل على يؤال وأبيا ابني شمويل ما نقموا من أمورهم واجتمعوا إلى شمويل وسألوه من الله أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه أعداءهم ويجمع نشرهم ويدفع الذل عنهم فجاء الوحي بأن يولي الله طالوت ويدهنه بدهن القدس فأبوا بعد أمر شمويل بأن يستهموا عليه فاستهموا على بني آبائهم فخرج السهم على طالوت وكان أعظمهم جسما فولوه واسمه عند بني إسرائيل شاول بن قيس بن أفيل بالفاء الهوائية القريبة من الباء ابن صاروا بن نحورت بن أفياح فقام بملكهم واستوزر أفنين ابن عمه نير بن أفيل وكان لطالوت من الولد يهوناتان وملكيشوع وتشبهات وأنبياداف وقام طالوت بملك بني إسرائيل وحارب أعداءهم من بني فلسطين وعمون ومؤاب والعمالقة ومدين فغلب جميعهم ونصر بنو إسرائيل نصرا لا كفاء له وأول من زحف إليهم ملك بني عمون ونازل قرية بلقاء فهجم عليهم طالوت وهو في ثلثمائة ألف من بني إسرائيل فهزمهم واستلحمهم ثم أغزى ابنه في عساكر بني إسرائيل إلى فلسطين فنال منهم واجتمعوا لحرب بني إسرائيل فزحف إليهم طالوت وشمويل فانهزموا واستلحمهم بنو اسرائيل وأمر شمويل أن يسير إلى العمالقة وأن يقتلهم ودوابهم ففعل واستبقى ملكهم أعاع مع بعض الأنام فجاء الوحي إلى شمويل بأن الله قد سخطه وسلبه الملك فخبره بذلك وهجره شمويل فلم يره بعد.وأمر شمويل أن يقدس داود وبعث له بعلامته فسار إلى بني يهوذا في بيت لحم وجاء به أبوه أيشا فمسحه شمويل وسلب طالوت روح الجسد وحزن لذلك ثم قبض شمويل وزحف جالوت وبنو فلسطين إلى بني إسرائيل فبرز إليهم طالوت في العساكر وفيهم داود بن إيشا من سبط يهوذا وكان صغيرا يرعى الغنم لأبيه وكان يقذف بالحجارة في مخلاته فلا تكاد تخطئ قال الطبري: وكان شمويل قد أخبر طالوت بقتل جالوت وأعطاه علامة قاتلة فاعترض بني إسرائيل حتى رأى العلامة فيه فسلمه وأقام في المصاف وقد احتمل الحجارة في مخلاته فلما عاين جالوت قذفه بحجارة فصكه في رأسه ومات وانهزم بنو فلسطين وحصل النصر فاستخلص طالوت حينئذ داود وزوجه ابنته وجعله صاحب سلاحه ثم ولاه على الحروب فاستكفى به وكان عمره حينئذ فيما قال الطبري ثلاثين سنة وأحبه بنو إسرائيل واشتملوا عليه وابتلي طالوت وبنوه بالغيرة منه وهم بقتله ونفذ لذلك مرارا ثم حمل ابنه يهونتان على قتله فلم يفعل لخلة ومصافاة كانت بينهما ودس إلى داود بدخيلة أبيه فيه فلحق بفلسطين وأقام فيهم أياما ثم إلى بني مؤاب كذلك ثم رجع إلى سبطه يهوذا بنواحي بيت المقدس فأقام فيهم يقاتل معهم بني فلسطين في سائر حروبهم حتى إذا شعر به طالوت طلب بني يهوذا بإسلامه إليه فأبوا فزحف إليهم فأخرجوه عنهم ولحق ببني فلسطين وقاتلهم طالوت في بعض الأيام فهزموه واتبعوه وأولاده يقاتلون دونه حتى قتل يهونتان ومشوى وملكيشوع وبنو فلسطين في اتباعه حتى إذا أيقن بالهلكة قتل نفسه بنفسه وذكر فيما قال الطبري لأربعين سنة من ملكه.ثم جاء داود إلى بني يهوذا فملكوه عليهم وهو داود بن إيشا بن عوفذ بالفاء الهوائية ابن بوغر واسمه أفصان بالفاء الهوائية والصاد المشمة وقد قدمنا ذكره في حكام بني اسرائيل بن سلمون الذي نزل بيت لحم لأول الفتح ابن نحشون سيد بني يهوذا عند الخروج من مصر ابن عميناذاب بن إرم بن حصرون بن بارص بن يهوذا هكذا نسبه في كتاب اليهود والنصارى وأنكره ابن حزم قال: لأن نحشون مات بالتيه وإنما دخل القدس ابنه سلمون وبين خروج بني إسرائيل من مصر وملك داود ستمائة سنة باتفاق منهم والذي بين داود ونحشون أربعة آباء فإذا قسمت الستمائة عليهم يكون كل واحد منهم إنما ولد له بعد المائة والثلاثين سنة وهو بعيد.ولما ملك داود على بني يهوذا نزل مدينتهم حفرون بالفاء الهوائية وهي قرية الخليل عليه السلام لهذا العهد واجتمع الأسباق كلهم إلى يشوشات بن طالوت فملكه في أورشليم وقام بأمره وزير أبيه أفنيد وقد مر نسبه.وفي كتاب أسفار الملوك من الإسرائيليات أن رجلا جاء الداود بعد وفاة طالوت فأخبره بمهلكه ومهلك أولاده في هزيمتهم أمام بني فلسطين وأمر هذا الرجل أن يقتله لما أدركوه فقتله وجاء بتاجه ودملجه إلى داود وانتسب إلى العمالقة فقتله داود بقتله وبكى على طالوت وذهب إلى سبط يهوذا بأرض حفرون بالفاء القريبة من الباء وهي قرية الخليل لهذا العهد وأقام شيوشيات بن طالوت في أورشليم والأسباط كلهم مجتمعون عليه وأقامت الحرب بينهم وبين داود أكثر من سنتين ثم وقع الصلح بينهم والمهادنة وأذعن الأسباط إلى داود وتركوه ثم اغتاله بعض قواده وجاء برأسه إلى داود فقتله به وأظهر عليه الحزن والأسف وكفل أخواته وبنيه أحسن كفالة.واستبد داود بملك بني إسرائيل لثلاثين سنة من عمره وقاتل بني كنعان فغلبهم ثم طالت حروبه مع بني فلسطين واستولى على كثير من بلادهم ورتب عليهم الخراج ثم حارب أهل مؤاب وعمون وأهل أدوم وظفر بهم وضرب عليهم الجزية ثم خرب بلادهم بعد ذلك وضرب الجزية على الأرمن بدمشق وحلب وبعث العمال لقبضها وصانعه ملك أنطاكية بالهدايا والتحف واختط مدينة صهيون وسكنها واعتزم على بناء مسجد في مكان القبة التي كانوا يضعون بها تابوت العهد ويصلون إليها فأوحى الله إلى دانيال نبي على عهده أن داود لا يبني وإنما يبنيه ابنه ويدوم ملكه فسر داود بذلك ثم انتفض عليه ابنه ابشلوم وقتل أخاه أمون غيه منه على شقيقه بأمان وهرب ثم استماله داود ورده وأهدر دم أخيه وصير له الحكم بين الناس ثم رجع ثانيا لأربع سنين بعدها وخرج معه سائر الأسباط ولحق داود بأطراف الشام وقيل لحق بخيبر وما إليها من بلاد الحجاز ثم تراجع للحرب فهزمه داود وأدركه يؤاب وزير داود وقد تعلق بشجرة فقتله وقتل في الهزيمة عشرون ألف من بني إسرائيل وسيق رأس قشلوط لولي أبيه داود فبكى عليه وحزن طويلا واستألف الأسباط ورضي عنهم ورضوا عنه ثم أحصى بني إسرائيل فكانوا ألف ألف ومائة ألف وسبط يهوذا أزيد من أربعمائة ألف وعوتب في الوحي لأنه أحصاهم بغير إذن وأخبره بذلك بعض الأنبياء لعهده.وأقام داود صلوات الله عليه في ملكه والوحي يتتابع عليه وسور الزبور تنزل وكان يسبح بالأوتار والمزامير وأكثر المزامير المنسوبة إليه في ذكر التسبيح وشأنه وفرض على الكهنونية من سبط لاوى التسبيح بالمزامير قدام تابوت العهد اثني عشر كوهنا لكل ساعة ثم عهد عند تمام أربعين سنة من دولته لابنه سليمان صلوات الله عليهما ومسحه مابان النبي وصادوق الخبر مسحة التقديس وأوصى ببناء بيت المقدس ثم قبض صلوات الله عليه ودفن في بيت لحم وكان لعهده من الأنبياء نامان وكاد وآصاف وكان الكهنون الأعظم أفيثار بن أحليج من عقب عالي الكوهن الذي ذكرناه في الحكام وكان من بعده صادوق.ثم قام بالملك من بعده من بني إسرائيل ابنه سليمان صلوات الله عليه وهو ابن اثنتين وعشرين سنة فاستفحل ملكه وغالب الأمم وضرب الجزية على جميع ملوك الشام مثل فلسطين وعمون وكنعان ومؤاب وأدوم والأرمن وأصهر إليه لملوك من كل ناحية ببناتهم وكان ممن تزوج بنت فرعون مصر وكان وزيره يؤاب بن نيثرا وهو ابن أخت داود اسمها صوريا وكان وزيرا لداود فلما ولي سليمان استوزره فقام بدولته ثم قتله بعد ذلك واستوزر يشوع بن شيداح ولأربع سنين من ملكه شرع في بيت المقدس بعهد أبيه إليه بذلك فلم يزل إلى آخر دولته بعد أن هدم مدينة انطاكية وبنى مدينة تدمر في البرية وبعث إلى ملك صور ليعينه في قطع الخشب من لبنان وأجرى على الفعلة فيه في كل عام عشرين ألف كر من الطعام ومثلها من الزيت ومثلها من الخمر وكان الفعلة في لبنان سبعين ألفا ولنحت الحجارة ثمانين ألفا وخدمه المناولة سبعون ألفا وكان الوكلاء والعرفاء على ذلك العمل ثلاثة آلاف وثلثمائة رجل.ثم بنى الهيكل وجعل ارتفاعه مائة ذراع في طول ستين وعرض عشرين وجعل بدائره كله أروقة وفوقها مناظر وجعل بدائر البيت ابريدا من خارج ونمقه وجعل الظهر مقورا ليودع فيه تابوت العهد وصف البيت من داخله وسقفه بالذهب وصنع في البيت كروبيين من الخشب مصفحتين بالذهب وهما تمثالان للملائكة الكروبيين وجعل للبيت أبوابا من خشب الصنوبر ونقش عليها تماثيل من الكروبيين والنرجس والنخل والسوسن وغشاها كلها بالذهب وأتم بناء الهيكل في سبع سنين وجعل لها بابا من ذهب ثم بنى بيتا لسلاحه أقامه على أربعة صفوف من العمد من خشب الصنوبر في كل صف خمسة عشر عمودا ووضع فيه مائتي ترس من الذهب في كل ترس ستمائة من حجر الجوهر والزمر وثلثمائة درقة من الذهب في كل درقة ثلثمائة من حجر الياقوت وسمى هذا البيت غيضة لبنان وصنع منبرا لجلوسه تحت رواق وكراسي كثيرة كلها من العاج ملبسة من الذهب ثم بنى من فوق هذا البناء بيتا لابنه فرعون التي تزوج بها وصنع بها أوعية النحاس لسائر ما يحتاج إليه البيت واسترضى الصناع لذلك من مدينة صور وعمل مذبح القربان بالبيت من الذهب ومائدة الخبز الوجوه من الذهب وخمس منابر عن يمين الهيكل وخمسا عن يساره بجميع آلاتها من الذهب ومجامر من الذهب وأحضر موروث أبيه من الذهب والفضة والأوعية الحسنة فأدخلها إلى البيت وبعث إلى تابوت العهد من صهيون قرية داود إلى البيت الذي بناه له فحمله رؤساء الأسباط والكهنونية على كواهلهم حتى وضعوه تحت أجنحة التمثالين للكروبيين بالمسجد وكان في التابوت اللوحان من الحجارة اللذين صنعهما موسى عليه السلام بدل الألواح المنكسرة وحملوا مع تابوت العهد قبة القربان وأوعيتها إلى المسجد وأقام سليمان أمام المذبح يدعو في يوم مشهود اتخذ فيه وليمة لذلك ذبح فيها اثنتين وعشرين ألفا من البقر ثم كان يقرب ثلاث مرات من السنة قرابين وذبائح كاملة ويبخر البخور وجميع الأوعية لذلك كلها ذهب وكانت جبايته في كل سنة ستمائة قنطار وستة وستون قنطارا من الذهب غير الهدايا والقربان إلى بيت المقدس وكانت له سفن بحر الهند تجلب الذهب والفضة والبضائع والفيلة والقرود والطواويس وكانت له خيل كثيرة مرتبة تجلب من مصر وغيرها تبلغ ألفا وستمائة فرس معدة كلها للحرب وكانت له ألف امرأة لفراشه ما بين حرة وسرية منها ثلثمائة سرية وفي الأخبار للمؤرخين أنه تجهز للحج فوافى الحرم وأقام به ما شاء الله وكان يقرب كل يوم خمسة آلاف بدنة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة ثم سما إلى ملك اليمن وسار إليه فوافى صنعاء من يومه وطلب الهدهد لالتماس الوضوء وكانت قناقه أي ملتمس الوضوء له في الأرض فافتقده ورجع إليه بخبر بلقيس كما قصه القرآن ودافعته بالهدية فلم يقبلها فلاذت بطاعته ودخلت في دينه وطاعته وملكته أمرها ووافته بملك اليمن وأمرها بأن تتزوج فنكرت ذلك لمكان الملك فقال لا بد في الدين من ذلك فقالت زوجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه وملكه على اليمن واستعملها فيه ورجع إلى الشام وقيل تزوجها وأمر الجن فبنوا لها سليمين وغمدان وكان يزورها في الشهر مرة يقيم عندها ثلاثا وعلماء بني إسرائيل ينكرون وصوله إلى الحجاز واليمن وإنما ملك اليمن عندهم بمراسلة ملكة سبأ وأنها وفدت عليه في أورشليم وأهدت إليه مائة وعشرين قنطارا من الذهب ولؤلؤا وجوهرا وأصنافا من الطيب والمسك والعنبر فأجازها وأحسن إليها وانصرفت هكذا في كتاب الأنساب من كتبهم.ثم انتفض على سليمان آخر هدرور ملك الأرمن بدمشق وهداد ملك أدوم وكان قد ولى على ضواحي بيت المقدس وجميع أعماله يربعان بن نباط من سبط أفرايم واستكفى به في ذلك وكان جبارا فعوتب بالوحي على لسان أخيا النبي في توليته فأراد قتله وشعر بذلك يربعان فهرب إلى مصر فأنكحه فرعون ابنته وولدت له ابنه ناباط وأقام بمصر.وقبض سليمان صلوات الله عليه لأربعين سنة من ملكه وقيل اثنتين وخمسين ودفن عند أبيه داود صلوات الله عليهما وافترق ملك بني إسرائيل من بعده كما نذكره إن شاء الله تعالى.
|